1- أنه بمعنى التفسير: وهو أكثر ما كَانَ يستخدمه السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم مثل: تفسير الطبري فعند تفسيره للآية يقول: وتأويل قوله تَعَالَى :... وكان السلف إذا سأل أحدهم عن معنى آية يقول: ما تأويلها. هذا هو معنى التأويل في كلامهم.
2- هو ما تؤول إليه حقيقة الشيء وقوعه، كقوله: ((هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ))[الأعراف:53] أي: يوم يقع هذا الذي ينكرون، وفي قصة يوسف ((هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ)) [يوسف:100] أي: وقت وقوع الرؤيا التي رآها وهو صغير وهي قوله:((إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ))[يوسف:4].
وبعد أربعين سنة جَاءَ أبوه وأمه وإخوانه الأحد عشر، ورفعوه عَلَى العرش وخروا له سجداً فقَالَ: ((هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ)) [يوسف:100] ولهذا فقوله تعالى: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) [آل عمران:7] يجوز للقارئ أن يقف هنا، وهو قول طائفة من السلف. والمقصود أن كيفية وقوعه وتحققه لا يعلمها إلا الله.

فجاء المتأخرون ووضعوا معنى جديداً وسموه تأويلاً وهو: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إِلَى الاحتمال المرجوح، لأن اللفظ يحتمل معنيين فيصرفونه عن المعنى الظاهر الراجح إِلَى المعنى المرجوح يضعونه من عند أنفسهم وهذا هو التأويل المذموم، وهو الذي مشى عليه الذين أولوا صفات الله تَعَالَى، وهو من أعظم الأبواب التي هُدم الدين بها، ولهذا جعله ابن القيم في كتاب الصواعق المرسلة عَلَى الجهمية والمعطلة: طاغوتاً من الطواغيت الكبرى، ورد عليه وهدمه؛ لأنه باب دخل منه المؤولة، فنفوا صفات الله: فنفوا اليد والعين والنزول والرضا والغضب وغيرها، وهذا المدخل لما دخل منه نفاة الصفات، وأقروه قالوا: هذا هو دين الإسلام وحقيقته، ولا يجوز لأحد أن يعتقد ظاهر هذه النصوص.
ثُمَّ جَاءَ أناس شر منهم وأخبث، ودخلوا من باب التأويل، وهدموا دين الإسلام بالكلية، وهم الباطنية فقالوا: لا يوجد قيامة ولا بعث، ولا نشور، فيُقال لهم: في القُرْآن والسنة أحاديث تدل عَلَى وجود قيامة وعلى نعيم الجنة، وعذاب القبر ونعيمه، فيقولوا: نؤوله مثلما أولتم آيات الصفات، فذهبوا إِلَى أبعد من ذلك، فأولوا الصلاة والزكاة والحج حتى الأشياء التي تناقلها النَّاس بالعمل.
فالصلوات الخمس عند الباطنية عَلِيّ وحسن وحسين وفاطمة ومحسن هذه هي الصلوات، وعلى هذا لم يبق من الدنيا شيء يتمسك به، فهَؤُلاءِ القوم أولوا مثلما أول غيرهم، وكان السبب أُولَئِكَ الذين فتحوا باب التأويل وأقروه؛ لأن الإِنسَان عندما يقر مبدأ معيناً ويستخدمه، كيف يمنع خصمه أن يستخدمه، يقول الشاعر:
فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها            وأول راضٍ سيرة من يسيرها
أول من يرضى بها من سار بها، فلا تغضب إذا سار غيرك هذه السيرة، فكان هذا من أبواب الشر الكبرى التي فُتحت في دين الإسلام،
ثُمَّ احتار النَّاس بعد ذلك ماذا يؤولون، وماذا لا يؤولون؟ ووقعت الأمة في خلاف عظيم كما في كتاب قواعد العقائد وقد طبع مستقلاً، وهو جزء من كتاب إحياء علوم الدين للغزالي فعند موضوع التأويل قَالَ: الخلاف في التأويل عظيم: فمن النَّاس من أول كل شيء حتى الصلوات، ومنهم من قَالَ: لا نؤول أي شيء، ومن ذلك الحنابلة، ثُمَّ احتاروا ولو أنهم ردوا الأمر عَلَى ما كَانَ عليه السلف لما كَانَ هناك حيرة.
ثُمَّ هو بين انحلال الباطنية والقائلين بالكشف، أي: الذين يذكرون الله كثيراً حتى يأتيهم الكشف! ثُمَّ يلقي في قلب أحدهم أن هذه الآية أولها، وهذه الآية لا تؤولها، أو يكون في المنام فيأتيه شخص فَيَقُولُ: أنا رَسُول الله أو أبُو بَكْرٍ أو عُمَر أو الشيخ الفلاني وهذه الآية لا تؤولها، وهذه الآية أولها، إِلَى هذا الحد يصل ديننا، فنحتاج إِلَى مكاشفات ومنامات وخيالات حتى نعرف حقيقة ما جَاءَ في كتاب الله وفي سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!!
هل أنزل الله القُرْآن هدى وبياناً وشفاءً لما في الصدور وجواباً قاطعاً لكل شبهة إِلَى قيام الساعة أم أنزله في وضع محير للعقول لا بد له من الكشف؟
وكم هم من يستطيع أن ينال الكشف من الناس؟!
وإلا تحتار العقول كيف تؤول؟
والحل والمخرج الصحيح هو ما كَانَ عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من غلق باب التأويل بالكلية .
وقوله: [فالتأويل الصحيح هو الذي يوافق ما جاءت به السنة والفاسد المخالف له]. يعني: أن التفسير الصحيح هو الذي يفسر الآيات أو أحاديث الصفات عَلَى ما يوافق السنة، أو عَلَى فهم الصحابة والتابعين النابع من فهمهم لكلام العرب.

ثُمَّ قال المصنف: [فكل تأويل لم يدل عليه دليل من السياق ولا معه قرينة تقتضيه، فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه] والمبين الهادي هو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي أنزل الله إليه الذكر ليبين للناس ما نُزِّل إليهم، وهو الذي يشرح ويوضح كلام الله تعالى، فإذا جَاءَ معنى من المعاني فلا بد أن يكون إما ظاهراً واضحاً بنفسه لمن تأمله، وأما أن يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تعتقدوا ظاهر هذا النص وهذا المعنى الواضح، الذي إذا قرأتموه فهمتموه، فإذا كَانَ هذا الأخير، فإنه يجب عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبين هذا، فإذا كَانَ العرب يفهمون من استوى: استقر وعلا وارتفع وصعد وأمثال هذه المعاني الواضحة من لغة العرب، وفهمها السلف وفسروها بذلك، بينما يكون المعنى الصحيح هو استولى، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أنزل عليه هذا القُرْآن وقرأه بين أظهرهم، وأوجب الله عليه أن يبين لهم، كَانَ ينبغي عليه ولو مرة من المرات في جلسة من الجلسات أن يقول لهم: انتبهوا إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله أو قلت لكم حديثاً في الصفات، فلا تأخذوه عَلَى ظاهره؛ بل لا بد أن تؤولوه وتخرجوه عن كلام العرب، وهذا في الحقيقة لم يحصل ولا يمكن أن يحصل.
ولهذا فالذين تراجعوا عن التأويل من المؤولين استدلوا بهذا الدليل الجلي الواضح كما فعل ذلك أبو المعالي الجويني في الرسالة النظامية والتي رجع فيها عن مذهب التأويل مستدلاً بهذا الدليل فقَالَ: وجدنا السلف مطبقين مجمعين عَلَى عدم التأويل، وهم أعلم النَّاس بالدين وأشدهم فهماً وأحرصهم عليه، فلو كَانَ هذا التأويل، حقاً لسبقونا إليه فلما وجدنا إطباقهم جميعاً عَلَى عدمه علمنا أنه باطل، فهذا استدلال صحيح.
لكن تأتينا قضية أخرى لا بد من بيانها: وهي كلمة الظاهر في آيات وأحاديث الصفات، وقولنا تفهم عَلَى ظاهرها فما هو ظاهرها؟ وكيف نفهم هذا الظاهر؟ وما هي أقوال النَّاس في ذلك؟ وهذه القضية من أخطر القضايا التي ضل فيها كثير من الناس، ولم يفهموها حق فهمها.
فنجد في كتاب العقائد من علم الكلام يقولون: (ونؤمن بهذه الصفات ونقرها مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد!) ويأتي بعضهم فَيَقُولُ: "اتفق السلف والخلف عَلَى أن ظاهر الآيات غير مراد ولكن افترقوا فريقين: فالسلف فوضوا والخلف أولوا وطريقة السلف أسلم وطريق الخلف أعلم وأحكم، فعندما يقرأون قوله تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) فالظاهر الذي فهموه من هذه الآية أن الاستواء هنا مثل استواء المخلوقين، ولهذا قالوا: إن السلف والخلف متفقون عَلَى أن الظاهر غير مراد، فنقول لهم: أخطأتم في إطلاق كلمة الظاهر هنا؛ لأنه لا يمكن أن يكون ظاهر كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير مراد! ومقولتكم هذه كانت بسبب ما تقرر لديكم ومن ثُمَّ أوجبتم تأويل ظاهر النصوص.

فيذكر المُصنِّف هذه القاعدة فَيَقُولُ: فكل تأويل لم يدل عليه دليل من السياق ولا معه قرينة تقتضيه فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه إذ لو قصده -يعني: الهادي المبين وهو الرَّسُول الذي يبين كلام الله وكلامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو قصده أو حتى القُرْآن لو قصد المعنى غير المتبادر إليه- لحف بالكلام قرائن تدل عَلَى المعنى المخالف لظاهره، حتى لا يوقع السامع في اللبس والخطأ -لأنه إذا لم يبين ذلك وقع السامع في اللبس والخطأ- فإن الله أنزل كلامه بياناً وهدى فإذا أراد به خلاف ظاهره ولم يحف به قرائن تدل عَلَى المعنى الذي يتبادر غيره إِلَى فهم كل أحد، لم يكن بياناً ولا هدى فإذا كَانَ الله تَعَالَى يريد بهذه الكلمة معنى من المعاني، ولم يدل عليه ولم يجعل قرينة تدل عَلَى صرفه عن المعنى الذي يفهمه النَّاس منه، ولم يبين رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك فعلى هذا لا يكون القُرْآن هدىً ولا بياناً بل يصبح ذا حيرة ومتاهة، وهذا لا يكون في كلام الله ولا في كلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً.
والسلف الصالح لم يكن يتبادر إِلَى أذهانهم عند قراءتهم لآيات الصفات أن الظاهر الذي يثبتونه لله هو ما يوافق وما يشابه صفات المخلوقين. فالخطأ عند المبتدعة كـأهل الكلام والمعطلة أنهم تصورا أن هذا هو الظاهر، ومن ثُمَّ أخذوا يأولون عَلَى ما تصوروا، لكن السلف الصالح فهموا قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) فكانت قاعدة مقررة لديهم وكل مسلم تُرك عَلَى فظرته السليمة، فإنه يوقن بذلك، فإذا قلت لأحدهم: هل علمك مثل علم الله وحياتك مثل حياة الله؟ فسيقول: أعوذ بالله، وهذا هو لسان العوام الذين لم يعلموا من الدين إلا ما عليه الفطرة السليمة، فكيف يظن بأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والسلف الصالح أنهم فهموا آيات الصفات أنها تعني مشابهة الله للمخلوقين، بل ظاهرها اللائق بجلال الله تَعَالَى وعظمته هو المعنى الظاهر عند السلف.
وشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ له رسالة مستقلة في موضوع الظاهر ومعناه، وأدلة السلف على أن ظاهر الصفات هو ما فهمه السلف الصالح وهو اللائق بجلال الله تعالى، وهذه الرسالة تسمى الرسالة المدنية طبعت مستقلة، وكذلك موجودة في الجزء السادس من مجموع الفتاوى والرسالة المدنية كتبها شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ إِلَى بعض أهل المدينة من أهل العلم يبين لهم حقيقة مذهب السلف الصالح في صفات الله، ورد فيها عَلَى القائلين بالتأويل والمجاز الزاعمين أنه خلاف الظاهر،
ثُمَّ بين لهم ما معنى الظاهر وما حقيقته؟ ومن جملة ما بين لهم ما أخذ منه المُصنِّف هنا بعض المقتطفات: